فصل: الكهانة‏:‏ ادعاء علم الغيب‏

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن **


ذكر تعالى في هذه الآية الكريمة أن المشركين إذ أتاهم عذاب من الله، أو أتتهم الساعة أخلصوا الدعاء الذي هو مخ العبادة لله وحده، ونسوا ما كانوا يشركون به‏.‏ لعلمهم أنه لا يكشف الكروب إلا الله وحده جل وعلا‏.‏

ولم يبين هنا نوع العذاب الدنيوي الذي يحملهم على الإخلاص لله، ولم يبين هنا أيضًا إذا كشف عنهم العذاب هل يستمرون على إخلاصهم، أو يرجعون إلى كفرهم وشركهم، ولكنه بين كل ذلك في مواضع أخر‏.‏

فبين أن العذاب الدنيوي الذي يحملهم على الإخلاص، هو نزول الكروب التي يخاف من نزلت به الهلاك، كأن يهيج البحر عليهم وتلتطم أمواجه، ويغلب على ظنهم أنهم سيغرقون فيه إن لم يخلصوا الدعاء لله وحده، كقوله تعالى ‏{‏هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِم بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُواْ بِهَا جَاءتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءهُمُ الْمَوْجُ مِن كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُاْ اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنِّ مِنَ الشَّاكِرِينَ فَلَمَّا أَنجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنفُسِكُم مَّتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَينَا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ‏}‏ ، وقوله ‏{‏وَإِذَا مَسَّكُمُ الْضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَن تَدْعُونَ إِلاَّ إِيَّاهُ‏}‏، وقوله‏:‏ ‏{‏فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ‏}‏، وقوله‏:‏ ‏{‏وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَّوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُاْ اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ‏}‏ ، إلى غير ذلك من الآيات‏.‏

وبين أنهم إذا كشف الله عنهم ذلك الكرب، رجعوا إلى ما كانوا عليه من الشرك في مواضع

كثيرة كقوله ‏{‏وَإِذَا مَسَّكُمُ الْضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَن تَدْعُونَ إِلاَّ إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الإِنْسَانُ كَفُورًا‏}‏ وقوله ‏{‏فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ‏}‏، وقوله ‏{‏قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُم مِّنْهَا وَمِن كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنتُمْ تُشْرِكُونَ‏}‏، وقوله ‏{‏فَلَمَّا أَنجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ‏}‏ إلى غير ذلك من الآيات‏.‏

وبين تعالى أن رجوعهم للشرك بعد أن نجاهم الله من الغرق من شدة جهلهم، وعماهم‏:‏ لأنه قادر على أن يهلكهم في البر كقدرته على إهلاكهم في البحر، وقادر على أن يعيدهم في البحر مرة أخرى، ويهلكهم فيه بالغرق فجرأتهم عليه إذا وصلوا البر لا وجه لها‏.‏ لأنها من جهلهم وضلالهم، وذلك في قوله ‏{‏أَفَأَمِنتُمْ أَن يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا ثُمَّ لاَ تَجِدُواْ لَكُمْ وَكِيلاً أَمْ أَمِنتُمْ أَن يُعِيدَكُمْ فِيهِ تَارَةً أُخْرَى فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قَاصِفا مِّنَ الرِّيحِ فَيُغْرِقَكُم بِمَا كَفَرْتُمْ ثُمَّ لاَ تَجِدُواْ لَكُمْ عَلَيْنَا بِهِ تَبِيعًا‏}‏ ‏.‏ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلاَ تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِم مِّن شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ‏}‏‏.‏

نهى الله جل وعلا في هذه الآية الكريمة نبيه صلى الله عليه وسلم عن طرد ضعفاء المسلمين وفقرائهم الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه، وأمره في آية أخرى أن يصبر نفسه معهم، وأن لا تعدو عيناه عنهم إلى أهل الجاه والمنزلة في الدنيا، ونهاه عن إطاعة الكفرة في ذلك وهي قوله‏:‏

{‏وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا‏}‏ كما أمره هنا بالسلام عليهم، وبشارتهم برحمة ربهم جل وعلا في قوله‏:‏

‏{‏وَإِذَا جَاءكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَن عَمِلَ مِنكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِن بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ‏}‏، وبين في آيات أخر أن طرد ضعفاء المسلمين الذي طلبه كفار العرب من نبينا صلى الله عليه وسلم فنهاه الله عنه، طلبه أيضًا قوم نوح من نوح، فأبى كقوله تعالى عنه‏:‏ ‏{‏وَمَآ أَنَاْ بِطَارِدِ الَّذِينَ آمَنُواْ‏}‏، وقوله‏:‏ ‏{‏وَيَا قَوْمِ مَن يَنصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِن طَرَدتُّهُمْ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ‏}‏، وقوله‏:‏ ‏{‏وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الْمُؤْمِنِينَ‏}‏ ، وهذا من تشابه قلوب الكفار المذكور في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ‏}‏ ‏.‏ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لِّيَقُولواْ أَهَؤُلاء مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّن بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ‏}‏‏.‏

أجرى الله تعالى الحكمة بأن أكثر أتباع الرسل ضعفاء الناس، ولذلك ‏"‏لما سأل هرقل ملك الروم أبا سفيان عن نبينا صلى الله عليه وسلم‏:‏ أأشرف الناس يتبعونه، أم ضعفاؤهم‏؟‏ فقال‏:‏ بل ضعفاؤهم‏.‏ قال‏:‏ هم أتباع الرسل‏"‏‏.‏

فإذا عرفت ذلك فاعلم أنه تعالى أشار إلى أن من حكمة ذلك فتنة بعض الناس ببعض، فإن أهل المكانة والشرف والجاه يقولون‏:‏ لو كان في هذا الدين خير لما سبقنا إليه هؤلاء، لأنا أحق منهم بكل خير كما قال هنا‏:‏ ‏{‏وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لِّيَقُولواْ أَهَؤُلاء مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّن بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ‏}‏ إنكارًا منهم أن يمن الله على هؤلاء الضعفاء دونهم، زعمًا منهم أنهم أحق بالخير منهم، وقد رد الله قولهم هنا بقوله‏:‏ ‏{‏أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ‏}‏‏.‏

وقد أوضح هذا المعنى في آيات أخر كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كَانَ خَيْرًا مَّا سَبَقُونَا إِلَيْهِ وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هَذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ‏}‏ ، وقوله‏:‏ ‏{‏وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَّقَامًا وَأَحْسَنُ نَدِيًّا‏}‏ ‏.‏

والمعنى‏:‏ أنهم لما رأوا أنفسهم أحسن منازل، ومتاعًا من ضعفاء المسلمين اعتقدوا أنهم أولى منهم بكل خير، وأن أبتاع الرسول صلى الله عليه وسلم لو كان خيرًا ما سبقوهم إليه، ورد الله افتراءهم هذا بقوله‏:‏ ‏{‏وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُم مِّن قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثَاثًا وَرِئْيًا‏}‏، وقوله‏:‏ ‏{‏أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُم بِهِ مِن مَّالٍ وَبَنِينَ نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَل لاَّ يَشْعُرُونَ‏}‏، إلى غير ذلك من الآيات‏.‏

‏{‏قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّي وَكَذَّبْتُم بِهِ مَا عِندِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ قُل لَّوْ أَنَّ عِندِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِيَ الأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏مَا عِندِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ‏}‏‏.‏

أمر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم في هذه الآية الكريمة أن يخبر الكفار، أن تعجيل العذاب عليهم الذي يطلبونه منه صلى الله عليه وسلم ليس عنده‏.‏ وإنما هو عند الله إن شاء عجله، وإن شاء أخره عنهم، ثم أمره أن يخبرهم بأنه لو كان عنده لعجله عليهم بقوله‏:‏ ‏{‏قُل لَّوْ أَنَّ عِندِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِيَ الأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ‏}‏‏.‏

وبين في مواضع أخر أنهم ما حملهم على استعجال العذاب إلا الكفر والتكذيب، وأنهم إن عاينوا ذلك العذاب علموا أنه عظيم هائل لا يستعجل به إلا جاهل مثلهم، كقوله‏:‏ ‏{‏وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِلَى أُمَّةٍ مَّعْدُودَةٍ لَّيَقُولُنَّ مَا يَحْبِسُهُ أَلاَ يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفًا عَنْهُمْ وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ‏}‏ ، وقوله‏:‏ ‏{‏يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِهَا وَالَّذِينَ ءَامَنُواْ مُشْفِقُونَ مِنْهَا‏}‏ ، وقوله‏:‏ ‏{‏وَمِنْهُم مَّن يَقُولُ ائْذَن لِّي وَلاَ تَفْتِنِّي أَلاَ فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُواْ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ‏}‏، وقوله‏:‏ ‏{‏قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُهُ بَيَاتًا أَوْ نَهَارًا مَّاذَا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ‏}‏‏.‏

وبين في موضع آخر أنه لولا أن الله حدد لهم أجلًا لا يأتيهم العذاب قبله لعجله عليهم، وهو قوله‏:‏ ‏{‏وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَوْلا أَجَلٌ مُّسَمًّى لَجَاءهُمُ الْعَذَابُ وَلَيَأْتِيَنَّهُم بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ‏}‏ ‏.‏

تنبيه

قوله تعالى في هذه الآية الكريمة‏:‏ ‏{‏قُل لَّوْ أَنَّ عِندِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِيَ الأَمْرُ‏}‏، صريح في أنه صلى الله عليه وسلم لو كان بيده تعجيل العذاب عليهم لعجله عليهم، مع أنه ثبت في الصحيحين من حديث عائشة رضي الله عنها أن النَّبي صلى الله عليه وسلم أرسل الله إليه ملك الجبال، وقال له‏:‏ إن شئت أطبقت عليهم الأخشبين ـ وهما جبلا مكة اللذان يكتنفانها ـ فقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله لا يشركَ به شيئًا‏"‏‏.‏

والظاهر في الجواب‏:‏ هو ما أجاب به ابن كثير ـ رحمه الله ـ في تفسير هذه الآية، وهو أن هذه الآية دلت على أنه لو كان إليه وقوع العذاب الذي يطلبون تعجيله في وقت طلبهم لعجله عليهم، وأما الحديث فليس فيه أنهم طلبوا تعجيل العذاب في ذلك الوقت، بل عرض عليه الملك إهلاكهم فاختار عدم إهلاكهم، ولا يخفى الفرق بين المتعنت الطالب تعجيل العذاب وبين غيره‏.‏

{‏وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلاَ حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ‏}

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ‏}‏‏.‏

بين تعالى المراد بمفاتح الغيب بقوله‏:‏ ‏{‏إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ‏}‏ فقد أخرج البخاري وأحمد وغيرهما عن ابن عمر، عن النَّبي صلى الله عليه وسلم ‏"‏أن المراد بمفاتح الغيب الخمس المذكورة في الآية المذكورة‏"‏‏.‏ والمفاتح الخزائن جمع مَفتح بفتح الميم، بمعنى المخزن، وقيل‏:‏ هي المفاتيح جمع مِفتح، بكسر الميم، وهو المفتاح وتدل له قراءة ابن السميقع‏.‏ مفاتيح بياء بعد التاء جمع مفتاح، وهذه الآية الكريمة تدل على أن الغيب لا يعلمه إلا الله، وهو كذلك، لأن الخلق لا يعلمون إلا ما علمهم خالقهم جل وعلا‏.‏

وعن عائشة رضي الله عنها، قالت‏:‏ ‏"‏من زعم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يخبر بما يكون في غدٍ فقد أعظم على الله الفرية‏"‏، والله يقول‏:‏ ‏{‏قُل لاَّ يَعْلَمُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ الْغَيْبَ إِلاَّ اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ‏}‏ أخرجه مسلم والله تعالى في هذه السورة الكريمة أمره صلى الله عليه وسلم أن يعلن للناس أنه لا يعلم الغيب، وذلك في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قُل لاَّ أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَآئِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَفَلاَ تَتَفَكَّرُونَ‏}‏ ‏.‏

ولذا لما رميت عائشة رضي الله عنها بالإفكِ، لم يعلم، أهي بريئة أم لا حتى أخبره الله تعالى بقوله‏:‏ ‏{‏أُوْلَئِكَ مُبَرَّؤُونَ مِمَّا يَقُولُونَ‏}‏ ‏.‏

وقد ذبح إبراهيم عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام عجله للملائكة، ولا علم له بأنهم ملائكة حتى أخبروه، وقالوا له‏:‏ ‏{‏إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ‏}‏، ولما جاءوا لوطًا لم يعلم أيضًا أنهم ملائكة، ولذا ‏{‏وَلَمَّا جَاءتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وَقَالَ هَذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ‏}‏ يخاف عليهم من أن يفعل بهم قومه فاحشتهم المعروفة حتى قال‏:‏ ‏{‏قَالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ‏}‏ ولم يعلم خبرهم حتى قالوا له‏:‏ ‏{‏إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَن يَصِلُواْ إِلَيْكَ‏}‏ ‏.‏

ويعقوب عليه السلام ابيضت عيناه من الحزن على يوسف، وهو في مصر لا يدري خبره حتى أظهر الله خبر يوسف‏.‏

وسليمان عليه السلام مع أن الله سخر له الشياطين والريح ما كان يدري عن أهل مأرب قوم بلقيس حتى جاءه الهدهد، وقال له‏:‏ ‏{‏فَقَالَ أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِن سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ‏}‏‏.‏

ونوح عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام ما كان يدري أن ابنه الذي غرق ليس من أهله الموعود بنجاتهم حتى قال‏:‏ ‏{‏وَنَادَى نُوحٌ رَّبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ‏}‏ ، ولم يعلم حقيقة الأمر حتى أخبره الله بقوله‏:‏ ‏{‏قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلاَ تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ‏}‏ ‏.‏

وقد قال تعالى عن نوح في سورة هود‏:‏ ‏{‏وَلاَ أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَآئِنُ اللَّهِ وَلاَ أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلاَ أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ وَلاَ أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَن يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْرًا اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا فِي أَنفُسِهِمْ إِنِّي إِذًا لَّمِنَ الظَّالِمِينَ‏}‏، والملائكة عليهم الصلاة والسلام لما قال لهم‏:‏ ‏{‏الْمَلاَئِكَةِ فَقَالَ أَنبِئُونِي بِأَسْمَاء هَؤُلاء إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ قَالُواْ سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ‏}‏ ‏.‏

فقد ظهر أن أعلم المخلوقات وهم الرسل، والملائكة لا يعلمون من الغيب إلا ما علمهم الله تعالى، وهو تعالى يعلم رسله من غيبه ما شاء، كما أشار له بقوله‏:‏ ‏{‏وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِن رُّسُلِهِ مَن يَشَاء فَآمِنُواْ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَإِن تُؤْمِنُواْ وَتَتَّقُواْ فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ‏}‏، وقوله‏:‏ ‏{‏عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا إِلاَّ مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا‏}‏ ‏.‏

تنبيه

لما جاء القرآن العظيم بأن الغيب لا يعلمه إلا الله كان جميع الطرق التي يراد بها التوصل إلى شيء من علم الغيب غير الوحي من الضلال المبين، وبعض منها يكون كفرًا‏.‏

ولذا ثبت عن النَّبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏"‏من أَتى عرَّافًا فسأله عن شيءٍ لم تقبل له صلاة أربعين يومًا‏"‏، ولا خلاف بين العلماء في منع العيافة والكهانة والعرافة، والطرق والزجر، والنجوم وكل ذلك يدخل في الكهانة، لأنها تشمل جميع أنواع ادعاء الإطلاع على علم الغيب‏.‏

وقد سئل صلى الله عليه وسلم عن الكهَّان فقال‏:‏ ‏"‏ليسوا بشيء‏"‏‏.‏

وقال القرطبي في تفسير هذه الآية ما نصه‏:‏ فمن قال إنه ينزل الغيث غدًا‏.‏ وجزم به فهو كافر أخبر عنه بأمارة ادعاها أم لا، وكذلك من قال إنه يعلم ما في الرحم فإنه كافر، فإن لم يجزم، وقال‏:‏ إن النوء ينزل به الماء عادة، وإنه سبب الماء عادة، وإنه سبب الماء على ما قدره وسبق في علمه لم يكفر إلا أنه يستحب له ألا يتكلم به، فإن فيه تشبيهًا بكلمة أهل الكفر وجهلا بلطيف حكمته، لأنه ينزل متى شاء مرة بنوء كذا، ومرة دون النوء‏.‏

قال الله تعالى‏:‏ ‏"‏أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر بالكواكب‏"‏ على ما يأتي بيانه في الواقعة إن شاء الله تعالى‏.‏

قال ابن العربي‏:‏ وكذلك قول الطبيب إذا كان الثدي الأيمن مسود الحلمة، فهو ذكر، وإن كان في الثدي الأيسر فهو أنثى، وإن كانت المرأة تجد الجنب الأيمن أثقل فالولد أنثى، وادعى ذلك عادة لا واجبًا في الخلقة لم يكفر، ولم يفسق‏.‏

وأما من ادعى الكسب في مستقبل العمر فهو كافر، أو أخبر عن الكوائن المجملة، أو المفصلة في أن تكون قبل أن تكون فلا ريبة في كفره أيضًا‏.‏ فأما من أخبر عن كسوف الشمس والقمر، فقد قال علماؤنا‏:‏ يؤدب ولا يسجن، أما عدم كفره فلأن جماعة قالوا‏:‏ إنه أمر يدرك بالحساب وتقدير المنازل حسبما أخبر الله عنه من قوله‏:‏ ‏{‏وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ‏}‏‏.‏

وأما أدبهم، فلأنهم يدخلون الشك على العامة، إذ لا يدرون الفرق بين هذا وغيره فيشوشون عقائدهم، ويتركون قواعدهم في اليقين، فأدبوا حتى يستروا ذلك إذا عرفوه ولا يعلنوا به‏.‏

قلت‏:‏ ومن هذا الباب ما جاء في صحيح مسلم عن بعض أزواج النَّبي صلى الله عليه وسلم أن النَّبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏من أتى عرافًا فسأله عن شيء لم تقبل له صلاة أربعين ليلة‏"‏، والعراف‏:‏ هو الحازي والمنجم الذي يدعي علم الغيب، وهي العرافة وصاحبها عراف، وهو الذي يستدل على الأمور بأسباب ومقدمات يدَّعي معرفتها‏.‏ وقد يعتضد بعض أهل هذا الفن في ذلك بالزجر والطرق والنجوم، وأسباب معتادة في ذلك، وهذا الفن هو العيافة بالياء، وكلها ينطلق عليها اسم الكهانة، قاله القاضي عياض‏.‏

والكهانة‏:‏ ادعاء علم الغيب‏.‏

قال أبو عمر بن عبد البر في ‏(‏الكافي‏)‏‏:‏ من ، ومهور البغايا، والسحت، والرشا، وأخذ الأجرة على النياحة، والغناء، وعلى الكهانة، وادعاء الغيب، وأخبار السماء، وعلى الزمر واللعب والباطل كله‏.‏ اهـ من القرطبي بلفظه، وقد رأيت تعريفه للعراف والكاهن‏.‏

وقال البغوي‏:‏ العراف الذي يدعي معرفة الأمور بمقدمات يستدل بها على المسروق، ومكان الضالة ونحو ذلك، وقال أبو العباس بن تيمية‏:‏ العراف‏:‏ اسم للكاهن والمنجم والرمال، ونحوهم ممن يتكلم في معرفة الأمور بهذه الطرق‏.‏

والمراد بالطرق‏:‏ قيل الخط الذي يدعي به الإطلاع على الغيب، وقيل إنه الضرب بالحصى الذي يفعله النساء، والزجر هو العيافة، وهي التشاؤم والتيامن بالطير، وادعاء معرفة الأمور من كيفية طيرانها ومواقعها وأسمائها وألوانها وجهاتها التي تطير إليها‏.‏

ومنه قول علقمة بن عبدة التميمي‏:‏

ومن تعرض للغربان يزجرها على سلامته لا بد مشئوم

وكان أشد العرب عيافة بنو لهب حتى قال فيهم الشاعر‏:‏ خبير بنو لهب فلا تك ملغيا مقالة لهبي إذا الطير مرت

وإليه الإشارة بقول ناظم عمود النسب‏:‏ في مدلج بن بكر القيافة كما للهب كانت العيافة

ولقد صدق من قال‏:‏ لعمرك ما تدري الضوارب بالحصى ولا زاجرات الطير ما الله صانع

ووجه تكفير بعض أهل العلم لمن يدعي الإطلاع على الغيب أنه ادعى لنفسه ما استأثر الله تعالى به دون خلقه، وكذب القرآن الوارد بذلك كقوله ‏{‏قُل لاَّ يَعْلَمُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ الْغَيْبَ إِلاَّ اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ‏}‏، وقوله هنا ‏{‏وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ‏}‏ ونحو ذلك‏.‏

وعن الشيخ أبي عمران من علماء المالكية أن حلوان الكاهن لا يحل له، ولا يرد لمن أعطاه له، بل يكون للمسلمين في نظائر نظمها‏.‏ بعض علماء المالكية بقوله‏:‏ وأي مال حرموا أن ينتفع موهوبه به ورده منع

حلوان كاهن وأجرة الغنا ونائح ورشوة مهر الزنا

هكذا قيل‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏

{‏وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُم بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُم بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَى أَجَلٌ مُّسَمًّى ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ‏}

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُم بِالنَّهَارِ‏}‏‏.‏

ذكر في هذه الآية الكريمة أن النوم وفاة، وأشار في موضع آخر إلى أن وفاة صغرى وأن صاحبها لم يمت حقيقة، وأنه تعالى يرسل روحه إلى بدنه حتى ينقضي أجله، وأن وفاة الموت التي هي الكبرى قد مات صاحبها، ولذا يمسك روحه عنده، وذلك في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ‏}‏ ‏.‏

‏{‏وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُم حَفَظَةً حَتَّىَ إِذَا جَاء أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لاَ يُفَرِّطُونَ ثُمَّ رُدُّواْ إِلَى اللَّهِ مَوْلاَهُمُ الْحَقِّ أَلاَ لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ قُلْ مَن يُنَجِّيكُم مِّن ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً لَّئِنْ أَنجَانَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُم مِّنْهَا وَمِن كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنتُمْ تُشْرِكُونَ قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِّن فَوْقِكُمْ أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُم بَأْسَ بَعْضٍ انظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ قُل لَّسْتُ عَلَيْكُم بِوَكِيلٍ لِّكُلِّ نَبَإٍ مُّسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَيُرْسِلُ عَلَيْكُم حَفَظَةً‏}‏‏.‏

لم يبين هنا ماذا يحفظون وبينه في مواضع أخر فذكر أن مما يحفظونه بدن الإنسان بقوله‏:‏ ‏{‏لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِّن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلاَ مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُم مِّن دُونِهِ مِن وَالٍ‏}‏ ، وذكر أن مما يحفظونه جميع أعماله من خير وشر، بقوله‏:‏ ‏{‏وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ كِرَامًا كَاتِبِينَ‏}‏، وقوله‏:‏ ‏{‏إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ‏}‏ ، وقوله‏:‏ ‏{‏أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُم بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ‏}‏‏.‏

‏{‏وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلاَ تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن شَيْءٍ وَلَكِن ذِكْرَى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُواْ دِينَهُمْ لَعِبًا وَلَهْوًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَذَكِّرْ بِهِ أَن تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ لَيْسَ لَهَا مِن دُونِ اللَّهِ وَلِيٌّ وَلاَ شَفِيعٌ وَإِن تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لاَّ يُؤْخَذْ مِنْهَا أُوْلَئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُواْ بِمَا كَسَبُواْ لَهُمْ شَرَابٌ مِّنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُواْ يَكْفُرُونَ قُلْ أَنَدْعُو مِن دُونِ اللَّهِ مَا لاَ يَنفَعُنَا وَلاَ يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللَّهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الأَرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَىَ وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ وَأَنْ أَقِيمُواْ الصَّلاةَ وَاتَّقُوهُ وَهُوَ الَّذِيَ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ وَيَوْمَ يَقُولُ كُن فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّوَرِ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلاَ تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ‏}‏‏.‏

نهى الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم في هذه الآية الكريمة عن مجالسة الخائضين في آياته، ولم يبين كيفية خوضهم فيها التي هي سبب منع مجالستهم، ولم يذكر حكم مجالستهم هنا، وبين ذلك كله في موضع آخر فبين أن خوضهم فيها بالكفر والاستهزاء بقوله‏:‏ ‏{‏وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكَفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلاَ تَقْعُدُواْ مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِّثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا‏}‏ ‏.‏

وبين أن من جالسهم في وقت خوضهم فيها مثلهم في الإثم بقوله‏:‏ ‏{‏إِنَّكُمْ إِذًا مِّثْلُهُمْ‏}‏، وبين حكم من جالسهم ناسيًا، ثم تذكر بقوله هنا‏:‏ ‏{‏وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلاَ تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ‏}‏، كما تقدم في سورة النساء‏.‏

‏{‏فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لا أُحِبُّ الآفِلِينَ فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِن لَّمْ يَهْدِنِي رَبِّي لأكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَآ أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَحَآجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلاَ أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلاَّ أَن يَشَاء رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلاَ تَتَذَكَّرُونَ وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلاَ تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُم بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالأَمْنِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي‏}‏‏.‏

الآيات قوله‏:‏ ‏{‏هَذَا رَبِّي‏}‏ في المواضع الثلاثة محتمل، لأنه كان يظن ذلك، كما روي عن ابن عباس وغيره ومحتمل، لأنه جازم بعدم ربوبية غير الله‏.‏ ومراده هذا ربي في زعمكم الباطل، أو أنه حذف أداة استفهام الإنكار والقرآن يبين بطلان الأول، وصحة الثاني‏:‏ أما بطلان الأول، فالله تعالى نفي كون الشرك الماضي عن إبراهيم في قوله‏:‏ ‏{‏وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ‏}‏ في عدة آيات، ونفي الكون الماضي يستغرق جميع الزمن الماضي، فثبت أنه لم يتقدم عليه شرك يومًا ما‏.‏

وأما كونه جازمًا موقنًا بعدم ربوبية غير الله، فقد دل عليه ترتيب قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لا أُحِبُّ الآفِلِينَ‏}‏ إلى آخره ‏"‏بالفاء‏"‏ على قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ‏}‏ فدل على أنه قال ذلك موقنًا مناظرًا ومحاجًا لهم، كما دل عليه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وحاجه قومه‏}‏ ، وقوله‏:‏ ‏{‏وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ‏}‏ والعلم عند الله تعالى‏.‏

{‏الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ‏}

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ‏}‏‏.‏

المراد بالظلم هنا الشرك كما ثبت عن النَّبي صلى الله عليه وسلم في صحيح البخاري وغيره من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، وقد بينه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ‏}‏، وقوله‏:‏ ‏{‏وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ‏}‏، وقوله‏:‏ ‏{‏وَلاَ تَدْعُ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لاَ يَنفَعُكَ وَلاَ يَضُرُّكَ فَإِن فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِّنَ الظَّالِمِينَ‏}‏ ‏.‏

‏{‏وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَّن نَّشَاء إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ كُلاًّ هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا مِن قَبْلُ وَمِن ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِّنَ الصَّالِحِينَ وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا وَكُلاًّ فضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُواْ لَحَبِطَ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ فَإِن يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلاء فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَّيْسُواْ بِهَا بِكَافِرِينَ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ وَمَا قَدَرُواْ اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُواْ مَا أَنزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِّن شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاء بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِّلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا وَعُلِّمْتُم مَّا لَمْ تَعْلَمُواْ أَنتُمْ وَلاَ آبَاؤُكُمْ قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ وَهَذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُّصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلَى صَلاَتِهِمْ يُحَافِظُونَ‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ‏}‏‏.‏

قال مجاهد وغيره هي قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلاَ تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُم بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالأَمْنِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ‏}‏، وقد صدقه الله، وحكم له بالأمن والهداية، فقال‏:‏ ‏{‏الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ‏}‏ ‏.‏

والظاهر شمولها لجميع احتجاجاته عليهم، كما في قوله‏:‏ ‏{‏لا أُحِبُّ الآفِلِينَ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 67‏]‏، لأن الأفول الواقع في الكوكب والشمس والقمر أكبر دليل وأوضح حجة على انتفاء الربوبية عنها، وقد استدل إبراهيم عليه، وعلى نبينا الصلاة والسلام بالأفول على انتفاء الربوبية في قوله‏:‏ ‏{‏لا أُحِبُّ الآفِلِينَ‏}‏ فعدم إدخال هذه الحجة في قوله‏:‏ ‏{‏وتلك حجتنا‏}‏ غير ظاهر، وبما ذكرنا من شمول الحجة لجميع احتجاجاته المذكورة صدر القرطبي، والعلم عند الله تعالى‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَوْ أَشْرَكُواْ لَحَبِطَ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ‏}‏‏.‏

ذكر تعالى أن هؤلاء الأنبياء المذكورين في هذه السورة الكريمة لو أشركوا بالله لحبط جميع أعمالهم‏.‏

وصرح في موضع آخر بأنه أوحي هذا إلى نبينا، والأنبياء قبله عليهم كلهم صلوات الله وسلامه، وهو قوله‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ‏}‏، وهذا شرط، والشرط لا يقتضي جواز الوقوع، لقوله‏:‏ ‏{‏قُلْ إِن كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ قُلْ إِن كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ‏}‏ على القول بأن ‏"‏إنْ‏"‏ شرطية وقوله‏:‏ ‏{‏لَوْ أَرَدْنَا أَن نَّتَّخِذَ لَهْوًا لاَّتَّخَذْنَاهُ مِن لَّدُنَّا إِن كُنَّا فَاعِلِينَ‏}‏ ، وقوله ‏{‏لَوْ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا لاَّصْطَفَى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاء سُبْحَانَهُ هُوَ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ‏}‏ ‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوْحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَن قَالَ سَأُنزِلُ مِثْلَ مَا أَنَزلَ اللَّهُ‏}‏‏.‏

أي لا أحد أظلم ممن قال ‏{‏سَأُنزِلُ مِثْلَ مَا أَنَزلَ اللَّهُ‏}‏ ونظيرها قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا قَالُواْ قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاء لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا إِنْ هَذَا إِلاَّ أَسَاطِيرُ الأوَّلِينَ‏}‏، وقد بين الله تعالى كذبهم في افترائهم هذا حيث تحدى جميع العرب بسورة واحدة منه، كما ذكره تعالى في البقرة بقوله‏:‏ ‏{‏فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ‏}‏، وفي يونس بقوله‏:‏ ‏{‏قُلْ فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّثْلِهِ‏}‏، وتحداهم في هود بعشر سور مثله في قوله‏:‏ ‏{‏أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُواْ بِعَشْرِ سُوَرٍ مِّثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ‏}‏، وتحداهم به كله في الطور بقوله‏:‏ ‏{‏فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِّثْلِهِ إِن كَانُوا صَادِقِينَ‏}‏‏.‏

ثم صرح في سورة بني إسرائيل بعجز جميع الخلائق عن الإتيان بمثله في قوله‏:‏ ‏{‏قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا‏}‏، فاتضح بطلان دعواهم الكاذبة‏.‏